الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا، قَالَ: «أَدِّ الْعُشْرَ» قَالَ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي فَحَمَاهَا لِي وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعْطِيَ زَكَاةَ الْعَسَلِ وَنَحْنُ بِالطَّوَافِ الْعُشْرَ، يُسْنِدُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ إمَامُ مَسْجِدِ الْأَهْوَازِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةٌ عَنْ مُوسَى بْنُ يَسَارٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَزْقَاقٍ مِنْ الْعَسَلِ زِقٌّ».وَلَمَّا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الثَّمَرِ وَمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ، فَكَذَلِكَ الْعَسَلُ.وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَظَائِرِهَا مِنْ مَسَائِلِ الزَّكَاةِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا جُمَلًا مِنْهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ إلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ مَتَى أَدَّاهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ قَائِمٌ فِي أَخْذِهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إسْقَاطِهِ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَجِّهُ الْعُمَّالَ عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوهَا عَلَى الْمِيَاهِ فِي مَوَاضِعِهَا»، وَهَذَا مَعْنَى مَا شَرَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ بِأَنْ لَا يَحْشُرُوا وَلَا يُعَشِّرُوا، يَعْنِي لَا يُكَلَّفُونَ إحْضَارَ الْمَوَاشِي إلَى الْمُصَدَّقِ وَلَكِنَّ الْمُصَدَّقَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ فِي مِيَاهِهِمْ وَمَظَانِّ مَوَاشِيهمْ فَيَأْخُذُهَا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الثِّمَارِ.وَأَمَّا زَكَوَاتُ الْأَمْوَالِ فَقَدْ كَانَتْ تُحْمَلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، ثُمَّ خَطَبَ عُثْمَانُ فَقَالَ: هَذَا شَهْرُ زَكَوَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ فَجَعَلَ لَهُمْ أَدَاءَهَا إلَى الْمَسَاكِينِ، وَسَقَطَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَقُّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَقْدَهُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ نَافِذٌ عَلَى الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أَوَّلُهُمْ»، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ بَعَثَ سُعَاةً عَلَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ كَمَا بَعَثَهُمْ عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِلْإِمَامِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَخْبُوَّةً فِي الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَالْمَوَاضِعِ الْحَرِيزَةِ، وَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا لِلسُّعَاةِ دُخُولُ أَحْرَازِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلِّفُوهُمْ إحْضَارَهَا كَمَا لَمْ يُكَلَّفُوا إحْضَارَ الْمَوَاشِي إلَى الْعَامِلِ، بَلْ كَانَ عَلَى الْعَامِلِ حُضُورُ مَوْضِعِ الْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَخْذِ صَدَقَتِهِ هُنَاكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْعَثْ عَلَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ السُّعَاةَ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَهَا إلَى الْإِمَامِ، وَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيهَا، وَلَمَّا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ بِهَا فِي الْبُلْدَانِ أَشْبَهَتْ الْمَوَاشِيَ فَنُصِبَ عَلَيْهَا عُمَّالٌ يَأْخُذُونَ مِنْهَا مَا وَجَبَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ وَمِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ، ثُمَّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ، أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ تُعْتَبَرُ فِيهَا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا مِنْ حَوْلٍ وَنِصَابٍ وَصِحَّةِ مِلْكٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الزَّكَاةُ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ، فَاحْتَذَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ، إذْ قَدْ صَارَتْ أَمْوَالًا ظَاهِرَةً يُخْتَلَفُ بِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَظُهُورِ الْمَوَاشِي السَّائِمَةِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا خَالَفَهُ، فَصَارَ إجْمَاعًا مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ»، وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ: «لَا تُحَشَّرُوا وَلَا تُعَشَّرُوا»، وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ احْمَدُوا اللَّهَ إذْ دَفَعَ عَنْكُمْ الْعُشُورَ».وَرُوِيَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: أَكَانَ عُمَرُ يُعَشِّرُ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: لَا قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْعُشُورِ الزَّكَاةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْمَكْسِ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ» يَعْنِي عَاشِرًا، وَإِيَّاهُ عَنَى الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:
فَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعُشْرِ هُوَ الْمَكْسُ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَيْسَتْ بِمَكْسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ وَجَبَ فِي مَالِهِ يَأْخُذهُ الْإِمَامُ فَيَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ كَمَا يَأْخُذُ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورَ الْأَرْضِينَ، وَالْخَرَاجَ.وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَفَى أَخْذَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا يَكُونُ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ، وَالْجِزْيَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: «إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ» يَعْنِي مَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ، وَبَيْنَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّكَاةِ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَلَمْ يَشْرُطْ فِيهَا أَخْذَ الْإِمَامِ لَهَا، وَقَالَ فِي الصَّدَقَاتِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} وَقَالَ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وَنَصْبُ الْعَامِلِ عَلَيْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا.وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ»، فَإِنَّمَا شَرَطَ أَخْذَهُ فِي الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَهُ فِي الزَّكَوَاتِ، وَمَنْ يَقُولُ هَذَا يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً، فَإِنَّ اسْمَ الزَّكَاةِ أَخَصُّ بِهَا، وَالصَّدَقَةُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالْمَوَاشِي وَنَحْوِهَا، فَلَمَّا خَصَّ الزَّكَاةَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ دُونَ أَخْذِ الْإِمَامِ وَأَمَرَ فِي الصَّدَقَةِ بِأَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الزَّكَوَاتِ مَوْكُولًا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَيَكُونُ أَخْذُ الصَّدَقَاتِ إلَى الْأَئِمَّةِ.قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ} رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ عَنْ ابْنِ أَبِي، أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ مَالِهِ صَلَّى عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَتَيْته بِصَدَقَةِ مَالِ أَبِي فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى».وَرَوَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغَضُونَ، فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهِمْ، وَأَرْضُوهُمْ، فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِهِمْ رِضَاهُمْ وَلْيَدْعُوَا لَكُمْ».وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَخْتَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا قَالُوا: وَمَا ثَوَابُهَا؟ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا».وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} هُوَ الدُّعَاءُ وَقَوْلُهُ: {سَكَنٌ لَهُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مِمَّا تَسْكُنُ قُلُوبُهُمْ إلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ، فَيُسَارِعُونَ إلَى أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ وَفِيمَا يَنَالُونَهُ مِنْ بَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِعَامِلِ الصَّدَقَةِ إذَا قَبَضَهَا أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. .قال ابن العربي: قَوْله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:.المسألة الْأُولَى: قَوْله تعالى: {خُذْ}: هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ سِوَاهُ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا سُقُوطُهَا بِسُقُوطِهِ، وَزَوَالُ تَكْلِيفِهَا بِمَوْتِهِ، وَبِهَذَا تَعَلَّقَ مَانِعُو الزَّكَاةِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَالُوا عَلَيْهِ: إنَّهُ كَانَ يُعْطِينَا عِوَضًا عَنْهَا التَّطْهِيرَ، وَالتَّزْكِيَةَ لَنَا، وَالصَّلَاةَ عَلَيْنَا، وَقَدْ عَدِمْنَاهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شَاعِرُهُمْ فَقَالَ: أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرٍ وَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمْ لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى لَدَيْهِمْ مِنْ التَّمْرِ سَنَمْنَعُهُمْ مَا دَامَ فِينَا بَقِيَّةٌ كِرَامٌ عَلَى الضَّرَّاءِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَهَذَا صِنْفٌ مِنْ الْقَائِمِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً، وَغَيْرُهُمْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَأَنْكَرَ النُّبُوَّةَ، وَسَاعَدَ مُسَيْلِمَةَ، وَأَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.وَفِي هَذَا الصِّنْفِ الَّذِي أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ، وَأَنْكَرَ الزَّكَاةَ وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِعُمَرَ حِينَ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِهِمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ الصَّلَاةِ مِنْهُمْ وَتَرْكِ الزَّكَاةِ، حَتَّى يَتَعَهَّدَ الْأَمْرَ، وَيَظْهَرَ حِزْبُ اللَّهِ، وَتَسْكُنَ سَوْرَةُ الْخِلَافِ؛ فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْحَقِّ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ فِي الْمَالِ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ.قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ.وَبِهَذَا اعْتَرَضَتْ الرَّافِضَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: عَجِلَ فِي أَمْرِهِ، وَنَبَذَ السِّيَاسَةَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَرَاقَ الدِّمَاءَ.قُلْنَا: بَلْ جَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَهَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَالْقُرْآنَ يَسْتَنِيرُ بِهِ، وَالسِّيَاسَةَ تُمَهِّدُ سُبُلَهَا فَإِنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.وَصَدَقَ الصِّدِّيقُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}؛ فَشَرْطُهُمَا، وَحَقَّقَ الْعِصْمَةَ بِهِمَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ حِينَ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إلَّا بِحَقِّهَا».وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ، فَالصَّلَاةُ تَحْقِنُ الدَّمَ، وَالزَّكَاةُ تَعْصِمُ الْمَالَ.وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ».وَأَمَّا السِّيَاسَةُ فَمَا عَدَاهَا فَإِنَّهُ لَوْ سَاهَلَهُمْ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ لَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَتَمَكَّنَتْ فِي الْقُلُوبِ بِدْعَتُهُمْ، وَعَسُرَ إلَى الطَّاعَةِ صَرْفُهُمْ، فَعَاجَلَ بِالدَّوَاءِ قَبْلَ اسْتِفْحَالِ الدَّاءِ.فَأَمَّا إرَاقَتُهُ لِلدِّمَاءِ فَبِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ عَصَمَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ يَا مَعْشَرَ الرَّافِضَةِ فِي تَوْطِيدِ الْإِسْلَامِ وَتَمْهِيدِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ إرَاقَتِهَا فِي طَلَبِ الْخِلَافَةِ، وَكُلٌّ عِنْدَنَا حَقٌّ، وَعَلَيْكُمْ فِي إبْطَالِ كَلَامِكُمْ، وَضِيقِ مَرَامِكُمْ خَنْقٌ.فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَلْتَحِقُ غَيْرُهُ فِيهِ بِهِ، فَهَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ بِالْقُرْآنِ غَافِلٍ عَنْ مَأْخَذِ الشَّرِيعَةِ، مُتَلَاعِبٍ بِالدِّينِ، مُتَهَافَتٍ فِي النَّظَرِ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُرِدْ بَابًا وَاحِدًا، وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ مَوَارِدُهُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا فِي غَرَضِنَا هَذِهِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: خِطَابٌ تَوَجَّهَ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، كَقَوْلِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} وَكَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} وَنَحْوِهِ.الثَّانِي: خِطَابٌ خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك}.وَكَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ: {خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فَهَذَانِ مِمَّا أُفْرِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا، وَلَا يُشْرِكُهُ فِيهِمَا أَحَدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، لِمَا وَقَعَ الْقَوْلُ بِهِ كَذَلِكَ.الثَّالِثُ: خِطَابٌ خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَيُشْرِكُهُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ مَعْنَى وَفَعَلَا، كَقَوْلِهِ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}.وَكَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ}.فَكُلُّ مَنْ دَلَكَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ مُخَاطَبٌ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ خَافَ يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآمِرُ بِهَا، وَالدَّاعِي إلَيْهَا، وَهُمْ الْمُعْطُونَ لَهَا، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} و{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.وَقَدْ قِيلَ لَهُ: {فَإِنْ كُنْت فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِك}.وَمَا كَانَ لِيَشُكَّ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ شَكَّ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي وَقْتِهِ.
|